لماذا يُعتبر عمرالسبعين عامًا الأكثر إبداعًا في حياة الأنسان
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن التغيير لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴿الرعد 11﴾ ظاهر السياق أن الضمائر الأربع له يديه خلفه يحفظونه مرجعها واحد ولا مرجع يصلح لها جميعا إلا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله: من أسر القول إلخ، فهذا الإنسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه ومن خلفه. وتعقيب الشيء إنما يكون بالمجيء بعده والإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله: من بين يديه ومن خلفه إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق، ثم طاف عليه المعقبات حوله وقد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الانشقاق 6) وفي معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله: وإليه ترجعون (يس 83) وإليه تقلبون (العنكبوت 21) فللإنسان وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه. ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور والإرادة وإليها يتوجه الأمر والنهي وبها يقوم الثواب والعقاب والراحة والألم والسعادة والشقاء، وعنها يصدر صالح الأعمال وطالحها، وإليها ينسب الإيمان والكفر وإن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها ومآربها.
وعن علاقة المعقبات بالجسم والروح يقول العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان للآية الرعد 12: وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان وما خلفه فيعم الأمور الجسمانية والروحية جميعا فجميع الأجسام والجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه، وكذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التي يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد وغير ذلك والسعادة والشقاء والأعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان. والإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شيء من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه، وإنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: الله حفيظ عليهم (الشورى 6) وقال وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (السبأ 21) وقال يذكر الوسائط في هذا الأمر وإن عليكم لحافظين (الانفطار 10).
ويستطرد السيد الطباطبائي عن علاقة الحفظة بالمعقبات قائلا: فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة ومعقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها وأسرع إليها الهلاك من بين أيديها ومن خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره ولا يتصرف فيه إلا هو سبحانه فهو الذي يهدي إليه التعليم القرآني، والآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها. والملائكة أيضا إنما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ (النحل 2)، وقال: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (الأنبياء 27). ومن هنا يظهر أن هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإن جانب الفناء والهلاك والضيعة والفساد بأمر الله كما أن جانب البقاء والاستقامة والصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني إلا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه إلا بأمر الله، ولا تثبت حالة روحية أو عمل أو أثر عمل إلا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط ولا يطرأ عليه الزوال إلا بأمر من الله فالأمر كله لله وإليه يرجع الأمر كله. وعلى هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، وعلى هذا ينبغي أن ينزل قوله في الآية المبحوث عنها: يحفظونه من أمر الله ﴿الرعد 11﴾. وبما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴿الرعد 11﴾ وأنه في موضع التعليل لقوله: يحفظونه من أمر الله ﴿الرعد 11﴾ والمعنى أنه تعالى إنما جعل هذه المعقبات ووكلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره ويمنعونه من أن يهلك أويتغير في شيء مما هو عليه لأن سنته جرت أن لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر والطاعة إلى المعصية والإيمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة والهداية إلى الإضلال والسعادة إلى الشقاء وهكذا. والآية أعني قوله: إن الله لا يغير ﴿الرعد 11﴾ إلخ، يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان وبين الحالات النفسية الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلوجرى قوم على استقامة الفطرة وآمنوا بالله وعملوا صالحا أعقبهم نعم الدنيا والآخرة كما قال ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا: (الأعراف 96) .






