البحث المتقدم

البحث المتقدم

(العليل الذي صان الإمامة) قراءة في مرض الإمام زين العابدين يوم الطف

0 تقييم المقال

 

في صباح عاشوراء، وعلى رمضاء كربلاء، كان الجميع يحمل سلاحه وينتظر نداء الحسين (عليه السلام). وحده فتى في خيمة السجاد، قد اشتدت عليه الحمى، وبات جسده النحيل يئن من الألم. لم يكن غريبًا ولا من عامة الركب، بل كان ابن الحسين وروحه الباقية… إنه علي بن الحسين، الإمام السجّاد، عليه السلام.

قد يتساءل قارئ التاريخ عن سرّ غياب هذا الإمام عن ميدان الشهادة، وهو المعروف بشجاعته وعلو مقامه، في حين تقدّم أخواه وأعمامه وبنو عمومته إلى ساح الوغى. والحقيقة التي جمعتها مصادر الشيعة، ككتاب الكافي للكليني والإرشاد للشيخ المفيد، تؤكد أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان “مبطونًا”، أي مصابًا بمرضٍ شديد – قيل إنه حمى أو ألم بطني – بلغ حدّ الإعياء، حتى وُصف بأنه على حافة الهلاك. ويُذكر في بعض التفاسير أن المرض لم يكن عارضًا بسيطًا، بل كان مؤلمًا حدّ أن يقعد الإمام عن أداء صلاته قائمًا.

ومن خلال مراجعة ما أورده العلماء المعاصرون كالسيد صباح شبر، والشيخ محمد صنقور، نجد اتفاقًا على أن المرض كان عارضًا من العوارض الإلهية لحكمة عليا، إذ أراد الله أن يُبقي السلالة النبوية قائمة بعد مجزرة كربلاء. وبهذا، حُفظ نسل الإمام الحسين عليه السلام، ليكون علي بن الحسين هو الحلقة الباقية من الإمامة، والشاهد الحيّ على فجيعة الطف.

ومن اللافت أن المرض بدأ في ليلة التاسع أو فجر العاشر، واستمر إلى ما بعد وقوع المذبحة، لكنه لم يطل به حتى الشام، كما تشير إلى ذلك الروايات التي تنقل خطاباته في الكوفة والشام، بلسان قويٍّ وفكر صافٍ، ما يدل على أنه تعافى بعد انتهاء المعركة بقليل، ليبدأ دوره الجديد، لا بالسيف، بل بالكلمة التي هزّت عروش الطغاة.

وهنا تبرز عظمة أهل البيت عليهم السلام، فالله لم يُرد للإمام السجّاد أن يحمل سيفًا في كربلاء، بل أراد له أن يحمل قضية كربلاء على مدى خمسٍ وثلاثين سنة من الإمامة. كان سلاحه هو الدعاء، وصوته هو الخطبة، وصبره هو الشهادة المستمرة. لقد كانت علّته في عاشوراء بوابةً لبعثٍ جديد: بعث الوعي، وبعث الوجدان الشيعي.

ولعلّ في هذه الحكمة الربانية، ما يوقظ فينا إدراكًا آخر: ليس كل من غاب عن الميدان غائبًا عن الثورة، وليس كل من غيّبه المرض عاجزًا عن التغيير. فالعليل في عاشوراء، صار الدليل في الشام، والخطيب في مجلس الطاغية، ومؤسس مدرسة الروح والمناجاة.

في زمنٍ تحاول فيه الأصوات المأجورة تشويه سيرة الإمام السجّاد، علينا أن نعيد قراءة مرضه لا كضعف، بل كخطّ دفاعٍ أخير عن الإمامة والرسالة. وما صحيفته السجادية إلّا وثيقة ناطقة عن قلب عاش كربلاء في عزلته، وأراد أن يجعل من كل مناجاة سهمًا في وجه الظالمين.

وهكذا بقي زين العابدين، لا كشهيد على الأرض، بل كشاهد على التاريخ…

نعم
هل اعجبك المقال
مواضيع اخرى للناشر